طقس بارد - خاطرة - نجيب كيَّالي


 طقس بارد

خاطرة

نجيب كيَّالي

مع منتصف نوفمبر قلبت الطبيعةُ موازينَها، وبدأ البرد يهاجم أوربا.. فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وبقيةَ الدول، أسنانُ المدن جميعِها تصطك كما تصطكُّ أسنانُ الناس، أظافرُ الشوارع لونُها أزرق كأظافر البشر، القطاراتُ والسيارات، ومِترووات الأنفاق كلُّها كأبناء وبناتِ آدم أصابها الرشح والإنفلونزا، وهي تستعمل المناديل الورقية،
لكنَّ أهلَ السياسة وحدَهم لا يشعرون بالبرد!
أنا الآن أكتب هذه السطور، وحول بدني كنزتان صوفيتان، ومعطفٌ سميك، ورأسي ابتلعته طاقيةٌ ثخينة كاللباد!
الإعلامُ يصرخ: الغاز صار قليلاً.
الناس تصرخ: الغاز صار قليلاً.
بعضُ المعامل خفَّض ساعات العمل، وبعضُها يوشك أن يتوقف.
إنها حرب أوكرانيا.
إنها حماقةٌ جديدة كالحماقة السورية!
تزداد ثقةُ البرد بنفسه، ينزل إلى الميادين، فيفرُّ الجميع إلى قراني البيوت، العصافير تهرب إلى الأعشاش، الأصواتُ تنسحب إلى الحلوق.. حتى الحجرُ والشجر والجوامد تخاف منه، وتهمس بطريقتها: أرجوكَ لا تقترب منا، لكنَّ أهلَ السياسة وحدَهم لا يشعرون بالبرد، وهم في مكاتبهم المغمورةِ بدفءٍ شاعريّ ناعم!
أنهض من مكاني، أقف خلف النافذة، أتصوَّر نفسي قاضياً، يسألني صوتٌ وأنا في قاعة المحكمة: مولانا القاضي.. بماذا تحكم على أهل السياسة ممن جاؤونا بالخراب، وصنعوا عجزَنا عن اتقاءِ البرد اللئيم القارس؟
أحكُّ رأسي وأقول: حُكْمي بسيط للغاية: مَنْ صنع شيئاً يجب أن يذوقه قبل الجميع، المرأةُ تتذوق طبختَها فوق النار، وصانعُ الحلوى يجرب قطعةً منها ليتأكد من جودتها. الآن أُفصِّل حُكْمي فيما يلي:
أولاً- إطفاءُ جميع السوفاجات في المقرَّات السياسية التي تخص هؤلاء.
ثانياً- إخراجُ الزعماء سكان تلك المقرَّات من جنَّاتهم إلى لقاءٍ مباشر مع مناخ الشتاء.
ثالثاً- تجريدُهم من معاطفهم السميكة ذاتِ الفِراء، وتوزيعُ أسمال الفقراء عليهم ليجربوها على أبدانهم.
رابعاً وأخيراً- إجراءُ مقابلاتٍ مطوَّلةٍ معهم على الواقف، وهم بتلك الأسمال ليتحدثوا عن عظمتهم وأمجادهم، ومهما طالت المقابلة يُمنَع عليهم الجلوسُ والتبول، واختصارُ الحديث، لأننا بحاجة ماسَّة لنعرفَ كلَّ صغيرةٍ وكبيرة عن تاريخهم المشرق، ونعي خفايا حكمتِهم وحنكتِهم في إشعال الحروب، وكي الشعوبِ بويلاتها وفظائعها، بينما هم كنجوم السماء، وآلهةِ الأمم القديمة يعيشون في مكانٍ بعيد!
   *

٢٠٢٢/١١/١٩

إرسال تعليق

0 تعليقات