عصفور وكلمات صباحيَّة حمَّام سعيد خاطرة لنجيب كيَّالي

 عصفور وكلمات صباحيَّة

حمَّام سعيد

خاطرة

نجيب كيَّالي


وأنا أتصفَّح الوجوه المُتخَمة بالكآبة منذ الصباح خطرت لي فكرةٌ باسمة:

ربَّاتُ البيوت حين تصبح منازلهن في حالةٍ غيرِ سارَّة كوجوهنا يسرعن بفتح النوافذ للتهوية، ويندفعن نحو خرطوم الماء والمكنسة لإزالة ما فوق البلاط المسكين من غبار ورواسب، وأوساخ. بعد هذا الحمَّام السعيد يصبح البيت بشوشاً، رائعاً، مورَّدَ الخدين، ممتلئاً بالنضارة كعريس يستعد للدخول على عروسه! لماذا- وهذه فكرتي- لا نقوم بحمَّام مماثلٍ سعيد لذواكرنا المحتشدة بصورٍ وانطباعاتٍ فظيعة وكراكيبَ من كل نوع؟ هذه المخزونات هي السببُ في بحيرات الكآبة التي تتمدد فوق وجوهنا وتحرمها حتى من ضوءِ بسمةٍ صغيرة! لكنَّ هذا الأمر.. هذا الحمَّام- بصراحة- ليس سهلاً، سأحكي لكم ما جرى معي شخصياً: ما كدتُ أحمل مكنستي في أحد الأيام، وأهجم على رواسب ذاكرتي، حتى سمعتُها تضحك، وتُسَخْسِخ من الضحك، ثم تقول: تحاول تنظيفي يا محترم؟! هل تظن ذلك سهلاً؟! هل نسيتَ أنك سوري؟! فهمتُ قصدَها، غيرَ أنني تجاهلتُه، وبإصرار حاولتُ إتمامَ مهمتي، فلم أُوَفَّق، وانكسرت مكنستي!

في يوم آخر جرَّبتُ، فانكسرت مكنستي أيضاً!

في يومٍ ثالثٍ ورابع وعاشر حاولتُ.. حاولت، وكنتُ في كل محاولة تأتيني ضحكاتُها مع جملة: أنتَ سوري. أصررتُ على تجاهل المقصود في محاولتي الأخيرة، وسألتُها: ماذا تعنين بجملتك المكرَّرة يا ذاكرتي الكريمة؟

قالت بصوتٍ يَقْطُر مرارة: أنتَ سوري يا سيِّد معناها: أنك من أهل البلاء.. من أهل الفناء.. من المسجَّلين في الآخرة منذ أكثر من عشر سنوات، عام ٢٠١١ يشير إلى سعير انطلق في بلدك أفظعُ من جهنم! لكنَّ قدميك فقط بقيتا في الدنيا تجرَّان فوقهما شبحاً أو جثة. جثتُك محمولةٌ على ساقيك، تفوح رائحتُها العفنة في كل لحظة، فهل في وسعك أن تنساها أو تمحو وجودها بمكنسة؟!

أنتَ سوري معناها: أن يداً وحشية جبَّارة امتدت إلى شعبك، وقسَّمته كالخراف إلى عشرة أقسام: قتيل، سجين، غريق في البحر، ساكن خيمة، ساكن ريح، مهاجر إلى دولة راقية، حالم بالهجرة، كئيب بعد أن هاجر، مجنون، متعطش للجنون! هذا الشعب كلُّه يسكن في خلاياك، نزحَ بملايينه الثلاثةِ والعشرين إلى روحك. فهل يمكنك نسيانُه بجرَّة ممحاة أو جرَّة مكنسة؟!

أنتَ سوري تعني: أن الزمان أراد أن يجعلك عِبْرةً للأجيال القادمة لكي تخاف من بطشه، فرغمَ ما عانيتَ من أهوال مازال أمامك الكثير، فإذا كنتَ لم تهاجر ولم تمت، وأنت الآنَ باقٍ في أرض الوطن، فقرقرةُ بطنك من الجوع سوف تسمعها النجوم! سعر الدولار تجاوز مؤخراً الخمسةَ آلاف ليرة، وراتبك- باسم اللهِ ماشاءَ الله- صار عشرين دولاراً فقط أو أقل، فهل تستطيع نسيانَ قرقرة بطنك؟!

أنتَ سوري تعني أن مئات الغائبين يَطلعون من كأس شايك الذي تشربه من غير سكَّر أو حتى من غير شاي! يحتلون مرايا عينيك، يسبقونك إلى كراسي المساء، يحشرون أجسادَهم في فِراشك، وينامون معك!

أنتَ سوري معناها: أن كل الأبواب مسدودةٌ في وجهك، كلَّ المنافذ، كلَّ الطرق! استغاثاتُك مردودةٌ إلى حلقك، مضروبةٌ في وجهك، فخزائنُ الرحمة التي يتحدثون عنها نفدتْ! الأممُ المتحدة عمياءُ لا تراك! الفضائيات- بعد أن أنهت لعبتَها القذرة- قذفتك إلى سراديب النسيان! إخوتُك العرب أسرعوا إلى شجرة النَّسَب، وشطبوا اسمك من هناك! السماء أصابَها وَقْرٌ تجاهك! كمنجاتُ الحب حين تعزف لا تفكّر فيك!

أنتَ سوري معناها: أنك تعيش في منتصف حبة ملح، حدودُك هناك، غذاؤك هناك، ماؤك هناك، أولادك هناك، قبرك هناك!

بلعتُ الذاكرة ريقها، وأضافت: هاتِ مَمَاحيك، مكانسَك، مجارفَك، جَرَّافاتِك، خراطيمَ مياهك، استعن بفريقٍ أو فِرَقٍ لمساعدتك، وقل لي بعد يومٍ أو أسبوعٍ أو سنة: هل نجحتَ في تنظيفِ مساحة سنتيمترٍ واحدٍ مني؟ 

٢٠٢٢/١٠/١٣





زيارة موقع ليفانت للدراسات الثقافية والنشر والتوزيع

تسوق من متجر وبوك ستور ليفانت


 




إرسال تعليق

0 تعليقات